أبو الطيب المتنبي
الشاعر الذي قتله شِّعره
مقدمة الكاتب .
أبو الطيب المتنبي أعظم شعراء العرب وأكثرهم تمكناً باللغة العربية ، وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها وصاحب كبرياء وشجاعة وشموخ بالإضافة الى الطموح وحب المغامرة وكان ذلك ظاهراً في أشعاره حيث تجد اعتزازه بالعروبة وافتخاره بنفسه .
هو شاعر مبدع وغزير الإنتاج ويعد بحق مفخرة الأدب العربي ، حيث يعود إليه الكثير من الأمثلة السائرة في هذا العصر والحكم البالغة والمعاني المبتكرة .
كان من أعظم شعراء العرب ، وله مكانة سامية لم تُتح مثلها لغيره من شعراء العرب. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. وهو شاعر حكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك .
أبو الطيب المتنبي
هو " أحمد ابن الحسين ابن الحسن ابن عبد الصمد الجعفي المذحجي " ولد في كندة (وهي منطقة في الكوفة وليست قبيلة كندة المعروفة ) بالكوفة سنة 303 هـ. سنة 915 للميلاد وتقع حالياً في مدينة النجف بالعراق .
أما بالنسبة إلى لقبه فهناك عدة روايات توضح سبب تسميته بالمتنبي لكن أشهرها أنه أدعى النبوة في شبابه وتم سجنه حتى عاد الى رشده وتاب .
لكن بعض الكتاب والمفسرين قالو أن سبب تسميته بالمتنبي تعود الى "النبوة" وهي المكان المرتفع كناية عن رفعة مكانه في الشعر وليس لأنه إدعى النبوة .
أما عن والديه فيقال أنه لم يعرف أمه لأنها ماتت وهو لا يزال صغير السن فربته جدته لأمه ، اشتهر بحدة الذكاء وقد ظهرت الموهبة الشعرية باكراً فقد أنشد الشعر وهو في العاشرة من عمره ،وبعض ما كتبه في ديوانه .
في الثانية عشر من عمره رحل الى بادية السماوة حيث أقام فيها سنتين يكتسب بداوة اللغة العربية وفصاحتها ، ثم عاد الكوفة وأخذ يدرس الشعر العربي وخاصة شعر (أبي النواس وأبن الرومي وأبي تمام وتلميذه البحتري ) وبعدها انتقل الى الكوفة حيث التقى هناك بأبي الفضل وكان متفلسفاً فتعلم الفلسفة منه ، وقد كان أبو الطيب سريع الحفظ وقد قيل عنه أنه حفظ كتاباً مكون من ثلاثين ورقة من نظرته الأولى له .
لم يستطع ابو الطيب الأستقرار في الكوفة حيث أراد الحصول على المزيد من العلم فشد رحاله الى بغداد فهي كانت عاصمة كل شي الطب والشعر والفلسفة وغيرها من العلوم وقد بدء التعرف فيها على الوسط الأدبي ، وحضر بعض حلقات اللغة الأدب بندها اتقن الشعر على الرغم من أنه لم يمكث في بتداد إلا سنة واحدة وبعد ذلك اراد ابو الطيب الإنتقال الى الشام وبدء بمدح الشيوخ والأمرتء والأدباء هناك .
وفي هذه الفترة كانت الدولة العباسية في مرحلة ضعف وبدء ظهور بعض الدويلات الأسلامية داخل الدولة العباسية حيث كان السلطة الحقيقة في الدولة العباسية بيد الوزراء و جّلهم من قادة الجيش من غير العرب ، في هذا العالم المضطرب كانت نشأة "أبو الطيب المتنبي " حيث استطاع أن يستغل موهبته في الشعر وبلاغته في التقرب من الأمراء والوزراء .
المتنبي في بلاط سيف الدولة في حلب .
وظل يتنقل من هنا الى هناك الى أن وصل مدنية " أنطاكية " في عام" 336 هـ"حيث كان لقائه مع ( سيف الدولة ابن حمدان ) صاحب حلب وقد كانا في سنٍ متقاربة حيث أُعجب به " سيف الدولة " وقد كان لسيف الدولة ناحية فنية قوية، لا تقل شأنًا عن ناحيته السياسية والحربية، فهو يحب الفن ويولع به، ويتذوقه ويساهم فيه، وقد وردت في ذلك أخبار متفرقة تدل عليه .
ونذكر هذا الموقف الذي حصل بين " سيف الدولة " و"المتنبي "
حيث سأل "سيف الدولة" المتنبي" أن يعيد إنشاد قصيدته:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان سيف الدولة يُحب هذه القصيدة ويستعيدها، فلما وصل إلى قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً
ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم
قال سيف الدولة: قد انتقدنا عليك هذين البيتين؛ لأن الشطرين لا يلتئمان، وكان خيرًا أن تخالف بينهما فتقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف
ووجهك وضاح وثغرك باسم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
كأنك في جفن الردى وهو نائم
وهو نقد دقيق، وإن كان المتنبي قد رد عليه فقال: «إن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك».
قرب "سيف الدولة " المتنبي " منه فكان من أخلص خلصانه وكان بينهما مودة واحترام ، وخاض أيضاً معارك معه ضد الروم على حدود الدولة الحمدانية .
لم يترك أبو الطيب عادته حيث يجعل الجزء الأكبر من قصائده لنفسه وتقديمه إياها على من يمدحه ، وقد كان في بلاط سيف الدولة ابن عمه (أبو العشائر ) وهو أيضا شاعرٌ لا يشق له غبار وكان بينه وبين ابو الطيب تحدث احياناً بعض الخلافات والمنافسات الشعرية .
وفي احد الأيام حديث خلاف بين ابو الطيب وبين سيف الدولة فجوة وقد عم على توسيعها بعض الكارهين لأبي الطيب وهم كثر في بلاط " سيف الدولة "
عاش " المتنبي " مكرماً مميزاً " عن غيره من الشعراء في حلب ولكنه كان دائماً يشعر بأنه يستحق أكثر من ذلك وهو ما جعله يطلب من " سيف الدولة " الكثير من الطلبات التي كانت غريبة على عادة الشعراء في ذلك العصر ، وقد تمثل ذلك في طلبه من "سيف الدولة " أن يلقي الشعر وهو جالساً وهو طلب غريب حيث كان الشعراء من عادتهم ان يلقون الشعر وهم واقفون بين يدي الأمير ، ومثل هذه التصرفات هي التي جعلت حساده في بلاط الأمير يستطيعون أن يقلبوا قلب الأمير عليه ، وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر الأمير حتى أحس " المتنبي " بالخيبة من أميره عندما اعتدى عليه شاعر أخر في حضرة الأمير" سيف الدولة" ولم يقتص الأمير منه ؛ شعر " المتنبي " بجرحٍ في كرامته ولم يستطع أن يتحمل الإهانة فرحل عن حلب تاركاً "سيف الدولة " بعد قرابة العشر سنوات قضاها في بلاطه .
المتنبي في مصر .
بعد مغادرته لمدينة حلب وترك "سيف الدولة " ، انتقل الى مصر حيث التقى بأمير أخر ذو أهمية في حياته وهو " كافور الأخشيدي" ولكن هذه المرة كان " كافور " حذراً في التعامل مع مثل هذا الشاعر الكبير ، فلم يستطع "المتنبي " أن يحصل منه ما كان يتمناه
أبا المِسْكِ هل في الكأسِ فَضْلٌ
أنالُه فإنّي أُغَنّي منذُ حينٍ وَتَشرَبُ
وَهَـبْتَ على مِـقدارِ كَـفّيْ زَمَانِنَا
وَنَفسِي على مِقدارِ كَفّيكَ تطلُبُ
إذا لم تَنُـطْ بي ضَـيْعَةً أوْ وِلايَةً
فَجُودُكَ يَكسُوني وَشُغلُكَ يسلبُ
يُـضاحِـكُ في ذا العِيدِ كُلٌّ حَبيبَهُ
حِذائي وَأبكي مَنْ أُحِبّ وَأنْدُبُ
أحِنُّ إلـى أهْـلي وَأهْوَى لِـقَاءَهُمْ
وَأينَ مِنَ المُشْتَاقِ عَنقاءُ مُغرِبُ
فإنْ لم يكُنْ إلاّ أبُوالمِسكِ أوْ هُمُ
فإنّكَ أحلى في فُؤادي وَأعْذَبُ
وقال ايضاً :
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا
ودون الذي أملت منك حجاب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وجواب
حتى ظهر في قلب " كافور " منه خيفة، لتعاليه في شعرهِ وطموحهِ إلى الملك، فلم يريه أي اهتمام يذكر على قصائد مدحه ، فهجاه المتنبي ثم رحل الى بغداد، وكان خروجه من مصر في يوم عيد، وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور وحاشيته، والتي كان مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
وقال أيضاً :
أكُلمـا اغْـتَـالَ عَـبـدُ الـسُـوءِ سـيـدَهُأ
َو خـانَـه فَـلَـهُ فـــي مـصــرَ تَمـهـيـد
صــار الخَـصِـي إِمــام الآبِـقـيـن بِـهــا
فـالـحُـر مستـعـبَـد والـعَـبـدُ مَـعـبُـودُ
نـامَـت نواطِـيـرُ مِـصـرٍ عَــن ثَعالِـبِـهـا
فقـد بَشِـمْـنَ ومــا تَفْـنـى العناقـيـدُ
الـعَـبـد لـيــسَ لِـحُــرٍّ صــالــحٍ بــــأخٍ
لَــو أنــهُ فــي ثـيــابِ الـحــرِّ مـولــود
لا تشـتَـرِ الـعَـبـد إلا والـعَـصَـا مـعــه
إِن الـعَـبِـيــدَ لأنـــجـــاسٌ مَـنـاكــيــد
مـا كُنـتُ أَحسَبُنـي أَحيـا إلـى زَمَـن
ٍيُسـيء بـي فيـهِ عَبـد وَهْـوَ مَحمـودُ
لم يكن "سيف الدولة" و"كافور الأخشيدي" هما من اللذان مدحهما المتنبي فقط، فقد قصد أمراء بلاد الشام والعراق وفارس. وبعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت لهُ معه مساجلات، ومدح "عضد الدولة ابن بويه الديلمي" في شيراز وذلك بعد فراره من مصر إلى الكوفة ليلة عيد النحر سنة 350هـ.
وفاته .
مَا أنصَفَ القَومُ ضبّة
وَأمهُ الطرْطبّة
وإنّما قلتُ ما قُلــتُ
رَحمَة لا مَحَبة
فلما كان المتنبي عائدًا إلى الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه محمد وغلامه مفلح، لقيه " فاتك بن أبي جهل الأسدي" ، وهو خال "ضبّة بن يزيد العوني" الذي هجاه المتنبي، وكان في جماعة أيضًا.
إذ اجتمع " فاتك "على "أبي الطيب " وجماعته مع ثلاثين فارساً يحملون السيوف والسهام، فتقاتل الجمعان في معركة غير متكافئة في العدد والعدة، وأثناء القتال، وبعد مقتل ابنه (محسّد) أراد المتنبي الفرار، فجاءه غلامه وقال له ألست انت القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفني ، فردّ عليه المتنبي: (قتلتني قتلك الله)، فرجع وقاتل بشجاعة حتى قُتل، وكان ذلك في منطقة يقال لها الصافية شرقي نهر دجلة، ويرجح أنّ ذلك كان في الثامن والعشرين من رمضان في عام 354هـ.
رحل ابو الطيب وترك لنا تراثاً عظيماً يضم 326 قصيدة ، تمثل أفضل عنوان لسيرة حياته ، وصور فيها ايضا الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير.